هذه الحلقة هي الثانية من سلة (ثقافة التلبيس) التي أنوي نشرها –لاحقاً-
في رسالة واحدة، فأتمنى من قارئيها –وفقهم الله للخير- أن يزودوني بما يجدونه
عليها من ملاحظات أو زيادات. وقد كانت الحلقة الأولى عن مصطلح (أهل القبلة) .
أما حلقة اليوم فتتحدث عن مصطلح (الإصلاح) الذي شاع ذكره وكثر تداوله في وسائل
الإعلام هذه السنوات القريبة –لاسيما في بلاد التوحيد- فلا يكاد يمر أسبوع أو
أسبوعان –أو شهر على أكثر تقدير!- إلا ونسمع عن ندوة تعقد عن (الإصلاح)، أو
مقال يُحبر في (الإصلاح).. وهكذا. فكلٌ يدعي وصلاً بهذا (الإصلاح) مهما اختلفت
المشارب أو التوجهات؛ مما أحدث ربكة في أذهان المتابعين، وعجباً كثيراً عندما
يرون التباين الواضح والمتناقض بين مدعي (الإصلاح) ؛ مما أورث تساؤلاً لديهم
عن: من (المصلح) الحقيقي من هؤلاء المدعين ؟! لأن (الإصلاح) مصطلح مجمل يستعمله
المصلح والمفسد في آن واحد. وكما قال ابن القيم –رحمه الله-: (أصل بلاء أكثر
الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل) (شفاء العليل، 1/324).
وقال –أيضاً-: (أصل ضلال بني آدم: الألفاظ المجملة، والمعاني المشبهة، ولا سيما
إذا صادفت أذهاناً مخطبة) (الصواعق، 3/927).
قلت: ومصطلح (الإصلاح) في القرآن الكريم
نوعان :
1- الإصلاح الصادق؛
وهو إصلاح الأنبياء والرسل وأتباعهم؛ ممن يدعو إلى توحيد الله وعبادته، ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن تنتشر الطاعات والخير، وتندثر السيئات والشر.
قال الشيخ ابن سعدي في تفسيره (1/51): (الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله
والإيمان به؛ لهذا خلق الله الخلق وأسكنهم الأرض)
ومن هذا الإصلاح الحق ما قاله شعيب عليه السلام لقومه (إن أريد إلا الإصلاح ما
استطعت). ثم نهاهم عن الإفساد المضاد للإصلاح ولا تفسدوا في الأرض بعد
إصلاحها).
قال ابن كثير في تفسيره (2/231): (فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم
وقع الإفساد بعد ذلك؛ كان أضر ما يكون على العباد).
وهذا الإصلاح الصادق إذا كثر حملته وظهروا وتصدروا الأمة كان ذلك أمنة –بإذن
الله- أن تصيبهم العقوبة ويعمهم الهلاك؛ كما قال تعالى: (وما كان ربك مهلك
القرى بظلم وأهلها مصلحون).
قال الطبري في تفسيره (15/530): (يقول تعالى ذكره: وما كان ربك يا محمد ليهلك
القرى التي أهلكها، التي قص عليك نبأها ظلماً وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير
مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم؛ ظلماً. ولكنه
أهلكها بكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم، وركوبهم السيئات).
2- الإصلاح الكاذب:
وهو إصلاح المنافقين والمفسدين ممن يُلبسون على الأمة بتسمية إفسادهم إصلاحاً!
كما قال تعالى عن أسلافهم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن
مصلحون) لكن الدعاوى لا تنفع أصحابها إن لم تكن حقيقة؛ ولذا رد الله عليهم وبين
كذبهم بقوله (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
قال الطبري –رحمه الله- في تفسيره (1/289-290): (والإفساد في الأرض: العمل فيها
بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه، فدلك جملة الإفساد..
فكذلك صفة أهل النفاق: مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربّهم، وركوبهم فيها ما
نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً
إلا بالتصديق والإيقان بحقيقته، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على
أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم
يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها).
وقال في تفسير قوله تعالى (ألا إنهم هم المفسدون) (1/291): أي (المخالفون أمر
الله عز وجل، المتعدون حدوده، الراكبون معصيته، التاركون فروضه)
وذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (1/32): أن فسادهم هو: (الكفر) و(العمل
بالمعاصي) و(النفاق).