يستعمل دعاة التقريب بين أهل السنة والمبتدعة هذا المصطلح كثيراً في كتاباتهم
محاولة منهم خلط الحق بالباطل وتمييع قضايا "السنة" و"البدعة" وما يترتب عليها
من أحكام. ويزعمون أنه يجب أن تلتقي طوائف الأمة الإسلامية وتتآلف مع بقاء كلٍ
منها على عقيدته وآرائه يعلنها على الملأ ، وينشرها مهما كانت! ما دام يصدق
عليه أنه من "أهل القبلة"؛ ويعنون بهم من يستقبل القبلة في صلاته مهما كانت
عقائده (كفرية) أو مخالفة للكتاب والسنة! دون تفريق.
ولا يرضون –بعد هذا- لأحدٍ أن يرد على أهل البدع أو يكشف انحرافاتهم؛ لأن هذا
–عندهم- مما يفرق "أهل القبلة"!
ويجهل هؤلاء الواهمون أو يغفلون عدة حقائق تبين هذا المصطلح وما يراد به عند
أهل العلم. هذه الحقائق باختصار هي:
1-
أن هذا المصطلح مقتبس من حديث للنبي صلى
الله عليه وسلم يقول فيه: ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك
المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته). أخرجه البخاري.
2-
أن المقصود من هذا الحديث –كما بين
العلماء- أن المسلم المصلي لا يجوز تكفيره وإخراجه من الإسلام؛ بل يبقى على هذا
الأصل؛ إلا أن يأتي بأمر مكفِّر.
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: (فيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر،
فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك ) . فتح
الباري (1/592).
ولهذا فقد أخرج البخاري عقب هذا الحديث ما يوضحه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا،
واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها،
وحسابهم على الله).
فهذا الحديث متعلق بمسائل "التكفير"، وأنه لا يجوز تكفير المسلم –وإن كان
مبتدعاً- بكل ذنب، ما لم تكن بدعته مكفرة.
3-
قال الطحاوي في عقيدته: (ونسمي أهل
قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين،
وله بكل ما قال وأخبر مصدقين).
قال ابن أبي العز في شرحه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا،
واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا". ويشير
الشيخ –رحمه الله- بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا
يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحلَّه.
والمراد بقوله: "أهل قبلتنا" من يدَّعي الإسلام، ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل
الأهواء، أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه
وسلم. وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: "ولا نكفرِّ أحداً من
أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه) . (شرح العقيد الطحاوية، ص 426-427، ط: التركي
والأرنؤط).
وقال في الموضع المشار إليه (ص 432-434) : ( قوله: "ولا نكفِّر أحداً من أهل
القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله".
: أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين
مؤمنين" يشير الشيخ –رحمه الله- إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل
ذنب.
واعلم –رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير، بابٌ عظُمت الفتنة
والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه
دلائلهم، فالناس فيه – في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة
للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على
طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
فطائفة تقول: لا نكفِّر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً،
مع العلم بأن في أهل القبلة: المنافقين،
الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من
قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين[size=16].
وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة
المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا
قُتل كافراً مرتداً. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في
كتاب "السنة" بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل
الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا
فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) [الأنعام: 68].
ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب. بل يقال:
لا نكفرهم بكل ذنب؛ كما تفعله الخوارج..). انتهى كلام ابن أبي العز – رحمه الله
- .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل
البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك قولان؛
كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعضهم يحكي هذا النـزاع في جميع أهل البدع
وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يُعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من
الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يُطلق كفر أحد من أهل الأهواء،
وإن كانوا أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والإلحاد) (الفتاوى، 7/618-619).
وقال –أيضاً-: (قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة
أنهم لا يُكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل، إذا
كان فعلاً منهياً عنه؛ مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان،
وأما إن تضمن ترك ما أمر الله به من الإيمان؛ مثل الإيمان بالله، وملائكته،
وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت؛ فإنه يكفر به). (الفتاوى، 20/90).
قال الدكتور إبراهيم الرحيلي معلقاً: (لكن ينبغي مراعاة أن لا يكون الذنب
منصوصاً على الكفر به كفراً أكبر؛ كترك الشهادتين، أو ترك الصلاة.. وأن لا يكون
الذنب مما ينافي الإيمان بالله). (موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء